كلام خطير فى ليله ابيض

عبدالستار ناصر
قاص عراقي مقيم في عمان
ست وعشرون قصة قصيرة كتبها جمال القيسي في مجموعتين إحداهما بعنوان(ليل أبيض) 2004 و(كلام خطير) 2005 لكن القصص تنتمي إلي مرحلة متقاربة زمنياً وإبداعياً، وكان يمكنه أن يجمعها في كتاب واحد، وما كان من سبب يرغمه علي تجزئة الكتاب إلي جزءين، وسوف يري القارئ في القصص جميعها، حالات إنسانية وحكايات مختلفة منوعة، لكن تجاربه في المجموعتين تلتصق ببعضها إلي حد كبير وتعطي فكرة طيبة لمن يريد دراسة هذا المبدع الشاب المثابر (مواليد 1970). في قصصه تسيطر المضامين بحصة تزيد علي حصة الشكل، وبعض تلك القصص كان يمكنها أن تأخذ حجم الرواية علي ما فيها من شخوص وأزمنة كما هو الحال مع قصة ( صادقون) لكن الكاتب يختصر ويكثف من أفعال أبطاله حتي يتمكن من إدخالهم في زجاجة القصة القصيرة وطبعاً لكل مبدع وما يري.
***
في قصة ( الدكتورة) وبعد حب عارم، يتزوج بطل القصة من امرأة أخري، وكم يحدث هذا في الحياة والقصص والحكايات لكن الحبيبة المهملة تنتقم منه في القصة حين يأتي إليها ويطلب منها فحص عينات من دمه فتقول ( هذه ليست مستشفي بيطريا) وما يكتبه جمال القيسي يندرج تحت يافطة الواقعية ولا شأن له بالفانتازيا أو الغرائبية أو ما يسمي (بعد الحداثوية) من رموز وأقنعة وتفكيك في النص، بل يكتب تحت خيمة أحداث ممكنة، بما في ذلك تسميات خريطة المكان مثل (كلية العلوم) أو الجامعة الأردنية أو ( كلية الدراسات العليا) ومدرسة رابعة العدوية) إلي جانب التذكير بأن القصة القصيرة هي فن الومضة، لحظة خاطفة أو ومضة ساحرة من الزمن، بينما نجده يحكي عن( مر عام وهما علي هذا العهد) ثم( أنهت سنتين) وهذا ما يحدث حصرياً في الرواية لكنه سيفطن إلي ذلك في قصص أخري كما سنري. من هناك وهنا، القصة الثانية، تحكي في المفارقات عن رجل اسمه سعيد وليس من شيء أسعده في حياته، مع أنه عاش عشرة أعوام بين امستردام والسورينام ومحكمة لاهاي وجامعتها لكنه بعد تسعة أشهر علي رجوعه من هناك أضاع كل شيء ولم يبق من شيء يملكه غير صفة( أستاذ جامعي) ومعطف تآكل في حافلات مؤسسة النقل العام. وتكمن المفارقة الكبري في كونه عاد بدرجة دكتوراه في علم الاقتصاد( وهذا الأسعد من ذاك سعيد) كما يقول علي الصفحة 28 وربما لهذا السبب أهدي القصة إلي صديقه (مرزوق الدبس) في إشارة ذكية إلي اسم( مرزوق) ممزوجاً مع طعم(الدبس)! في( بريد الحب تاء) قصة عن (الوهم) الذي لا بد أن يعيشه المرء ولو لمرة واحدة في حياته المتشعبة الطويلة، عن رجل معجب بكاتبة معروفة، يكتب إليها رسالة تهيأ له أنها ستبكي بعد قراءتها، وسوف تسأل عنه ويشغلها التفكير به. ويدوم الوهم الساحر قرابة عشرين سنة بعد كتابته الرسالة حتي إذا ما رآها مصادفة في مقهي علي الطريق، تهيأ له ثانية أنها عرفته من أول طلعة، فيقول بفرح عارم:
- ما أشد كسل موظفي البريد في بلادنا أيتها الكاتبة الرائعة
وكان ذلك علي الصفحة 34 قبل اكتشاف الرسائل الإلكترونية التي أنقذتنا من كسل موظفي البريد ولم تنقذنا من ( الوهم) طبعاً.
***
يأتي البديل الموضوعي في قصص جمال القيسي من صلب الفكرة، وأغلب قصصه تتمتع بخاصية الإمساك بهذا الشرط الأساس للقصة القصيرة والرواية معاً، فهناك دائماً إشارة باطنية تشعر بها في نهاية القصص كبديل لحالة ما عن الشر أو الخير أو نكران الذات أو الكبرياء أو المكابرة أو الغضب أو المسؤولية أو الوفاء أو الأنانية، بحسب مضمون القصة التي سيكتبها وبعض قصاصينا لا يعبأ بذلك وقد لا يعرفه أحياناً. في قصة(اليمين) فكرة طيبة عن رجل جاء ليسمع الشعر، بينما الآخرون يصفقون للشاعر بقوة، ويظن بعض الحضور أن هذا الرجل الذي لا يصفق معهم( ربما) يكره الشاعر، لكن الحقيقة ستبدو غير ذلك تماماً، حين يرجو مدير الأمسية ( عدم التصفيق للشاعر حتي يتسني لهم التمتع بالشعر ومعانيه) وهنا فقط راح الرجل يصفق لمدير الأمسية، فهو وحده الذي جاء ليصغي إلي الشعر وليس المهم أن يصفق للشاعر. أما عن قصة(....... وأزمة مكان) فهي حكاية عن مريض بالكآبة يأخذ المهدئات والكحول، فيذهب مع صديق له إلي طبيب يبدو أنه الآخر بحاجة إلي طبيب، بينما يتسلي صديقه مع السكرتيرة التي يصادف أنها هي أيضاً مريضة بالهلوسة، ولعل أطرف ما في القصة أنها تنتهي بأغنية كاظم الساهر التي يقول فيها:
- أجمل ما في الكون، آتي وها المجنون........ ص 43
والقصة تمضي إلي معناها لتقول: إن العالم يعجّ بالمرضي وليس من علاج مؤكد، إلي جانب أزمة الصديق الذي يغازل السكرتيرة وهو يعاني أزمة مكان يأخذها إليه! وهذا بديل موضوعي آخر عن مرض من نوع يضاف إلي بقية أمراض الطبيب وأمراض الرجل الذي أصابته الكآبة ولم تنقذه حتي المهدئات أو الخمور أو الأدوية فقد تمكن المرض من الجسد كله وانتهت أية مقاومة تذكر. وأقف هنا عند قصة مهمة عنوانها( صادقون) وهذه المرة مع خيانات بالجملة، مهندس ورجل أعمال وطبيب يسهرون حتي الصباح مع ثلاث نساء (متزوجات) وكل واحد من الرجال والنساء تمكن من تسويغ غيابه ليلاً بعد تدابير مسبقة متقف عليها.. قصة متشابكة يمكن القول عنها ووصفها بما قاله الطبيب نفسه علي الصفحة 50:
- الحالة خطيرة بالفعل، أنا شخصياً أراها جلطة اجتماعية وتكاد هذه القصة تكون رواية بسبب كثرة شخصياتها (ثلاثة رجال زائداً ثلاث نساء) ناهيك عن الزوجات الثلاث المخدوعات وعن الرجال الثلاثة المخدوعين مع أن حاسة الزوجة بأن زوجها خائن( لا تخيب ) كما يقول المؤلف علي الصفحة 45.
***
يميل جمال القيسي إلي اللعب والفرفشة مع المفردات وعليها ويري في ذلك بعض جماليات القص وشاعريته مثل قوله:
- في مستشفي الفحيص بدأ الفحص..... ص 39 كلام خطير.
- سعيد لم يسعد أهله.... ص 26 كلام خطير.
- لم يكن رفيقي رفيقاً بي........ ص 22 ليل أبيض.
وهي طريقة في الكتابة تتكرر لدي عدد ليس بالقليل من القصاصين ( بمن في ذلك كاتب السطور) ونجدها في كتابيه( ليل أبيض وكلام خطير) معاً مما يؤكد أن القصص تنتمي إلي مرحلة إبداعية وزمنية واحدة كما أسلفنا القول. وعندما نصل قصة( مسقط القلب) سنعثر علي أصدقاء في حالة نشوة، وكانت قصائد الشعر تسيطر علي أجواء المكان، وفي السيارة يسابقون الريح في سرعتها، أحد الأصدقاء يطلب من صاحبه التأني في السياقة لكنهما بعد سقوطهما في إحدي الحفر يكتشف الصديق الذي يرجو إبطاء السرعة أنه هو الذي كان يقود السيارة وأنه هو الذي أوقع صديقه في تلك الحفرة! وقبل سقوطهما تساءل الاول عن أجمل موت ممكن، فيقول الثاني( في مسقط القلب) بدلاً من ( مسقط الرأس) في تلميح مقصود إلي ما كتبه أحلام مستغانمي في أولي رواياتها ( ذاكرة الجسد). في قصة ( مثقف) نمضي مع المؤلف إلي ديكارت وفلسفة الشك، أنا أشك اذا أنا موجود، ويحكي عن التنظيمات الحزبية ومقارنتها بالزوجة، مع شيء من بهارات الكتب التي يقول بعضها( إن سوء الظن من أذكي الفطن) ويستمر فيلسوفنا ديكارت جاثماً بين السطور حتي يترجل عن فرسه الجامح، ولا مانع أن يصغي الرجل الحزبي إلي المغنية نانسي عجرم ( آه ونص) في سيارته الخاصة، ما دام بعيداً عن أنظار الآخرين. قصة ساخرة تحكي عن حقائق مطمورة اسمها الأحزاب السرية وعن نوع من المثقفين ( الكبار).

تسلم يا جميل وتقبل مرورى

والى الامام